فصل: تفسير الآية رقم (93):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة البقرة: الآيات 90- 91]:

{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}.
بِئْسَمَا نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس بمعنى بئس شيئا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ والمخصوص بالذم أَنْ يَكْفُرُوا واشتروا بمعنى باعوا بَغْيًا حسدًا وطلبا لما ليس لهم، وهو علة اشتروا أَنْ يُنَزِّلَ لأن ينزل أو على أن ينزل، أى حسدوه على أن ينزّل اللَّه مِنْ فَضْلِهِ الذي هو الوحى عَلى مَنْ يَشاءُ وتقتضي حكمته إرساله فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ فصاروا أحقاء بغضب مترادف، لأنهم كفروا بنبيّ الحق وبغوا عليه. وقيل كفروا بمحمد بعد عيسى. وقيل بعد قولهم: عزيز ابن اللَّه، وقولهم: يد اللَّه مغلولة، وغير ذلك من أنواع كفرهم بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مطلق فيما أنزل اللَّه من كل كتاب قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا مقيد بالتوراة وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ أى قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِما مَعَهُمْ منها غير مخالف له، وفيه ردّ لمقالتهم لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها ثم اعترض عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادّعائهم الإيمان بالتوراة والتوراة لا تسوّغ قتل الأنبياء. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}.
أي دعاكم إلى التوحيد، وإفراد المعبود عن كل معبود ومحدود، ولكنكم لم تجنحوا إلا إلى عبادة ما يليق بكم من عِجْلٍ اتخذتموه، وصنمٍ تمنيتموه. فرفع ذلك من بين أيديهم، ولكن بقيت آثاره في قلوبهم وقلوب أعقابهم، ولذلك يقول أكثرُ اليهود بالتشبيه. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُم موسى بالبينات}.
إن قلت: لِم أقسم على مجِيئه لهم بالبينات، وهم موافقون عليه.
وإنما يتوهم مخالفتهم في اتخاذهم العجل فقط؟ فهلاَ قيل: ولقد اتخذتم العجل من بعد ما جَاءكم موسى بالبينات؟
فالجواب: أنه ظهرت عليه مخائل الإنكار لمجيئه لهم بالبيّنات بسبب اتخاذهم العجل، فلذلك عطفه عليه بيانا لسببه الموجب للقسم.
قال ابن عطية: البينات: التوراة، والعصا، وفرق البحر، وغير ذلك من آيات موسى عليه الصّلاة والسلام.
قال ابن عرفة: إن أراد بالبينات الظاهرة فظاهر، وإن أراد المعجزات فليست التوراة منها، لأنها غير معجزة وإنما الإعجاز بالقرآن فقط.
فإن قلتم: إنّها معجزة باعتبار اشتمالها على الإخبار بالمغيبات.
قلنا: الإعجاز فيها حينئذ ليس هو من حيث المجيء بها بل من حيث الإخبار بالمغيبات فقط.
قال ابن عرفة: وذمهم أولا بكفرهم فيما يرجع إلى النّبوة بقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ الله مِن قَبْلُ} ثم ذمهم بكفرهم فيما يرجع إلى الألوهية باتخاذهم العجل إلاها فهو ترق في الذم.
قال: ومفعول {اتّخَذْتُمُ} محذوف أي العجل إلاها، وحذفه مناسب، لأنه مستكره مذموم، فحذفه إذا دل السياق عليه أحسن من ذكره. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (92)}.
بعد أن بين لنا الله سبحانه وتعالى رفضهم للإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. بحجة أنهم يؤمنون بما أنزل إليهم فقط.. أوضح لنا أن هذه الحجة كاذبة وأنهم في طبيعتهم الكفر والإلحاد.. فقال سبحانه: ولقد جاءكم موسى عليه السلام أيده الله ببينات ومعجزات كثيرة كانت تكفي لتملأ قلوبكم بالإيمان وتجعلكم لا تعبدون إلا الله.. فلقد شق لكم البحر ومررتم فيه وأنتم تنظرون وترون.. أي أن المعجزة لم تكن غيبا عنكم بل حدثت أمامكم ورأيتموها.. ولكنكم بمجرد أن تجاوزتم البحر وذهب موسى للقاء الله.. بمجرد أن حدث ذلك اتخذتم العجل إلها من دون الله وعبدتموه.. فكيف تدعون أنكم آمنتم بما أنزل إليكم.. لو كنتم قد آمنتم به ما كنتم اتخذتم العجل إلها.
والحق تبارك وتعالى يريد أن ينقض حجتهم في أنهم يؤمنون بما أنزل إليهم.. ويرينا أنهم ما آمنوا حتى بما أنزل إليهم.. فجاء بحكاية قتل الأنبياء.. ولو أنهم كانوا مؤمنين حقا بما أنزل إليهم فليأتوا بما يبيح لهم قتل أنبيائهم ولكنهم كاذبون.. أما الحجة الثانية فهي إن كنتم تؤمنون بما أنزل إليكم.. فقولوا لنا كيف وقد جاءكم موسى بالآيات الواضحة من العصا التي تحولت إلي حية واليد البيضاء من غير سوء والبحر الذي شققناه لكم لتنجو من قوم فرعون.. والقتيل الذي أحياه لله أمامكم بعد أن ضربتموه ببعض البقرة التي ذبحتموها.. آيات كثيرة ولكن بمجرد أن ترككم موسى وذهب للقاء ربه عبدتم العجل. إذن فقولكم نؤمن بما أنزل إلينا غير صحيح.. فلا أنتم مؤمنون بما أنزل إليكم ولا أنتم مؤمنون بما أنزل من بعدكم.. وكل هذه حجج الهدف منها عدم الإيمان أصلا.
وقوله تعالى: {ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون}.. واتخاذ العجل في ذاته ليس معصية إذا اتخذته للحرث أو للذبح لتأكل لحمه.. ولكن المعصية هي اتخاذ العجل معبودا.
وقوله تعالى: {اتخذتم العجل}.. أي أن ذلك أمر مشهود ولا إلي شهادة لأنه حدث علنا وأمام الناس كلهم.. وذكر حكاية العجل هذه ليشعروا بذنبهم في حق الله.. كأن يرتكب الإنسان خطأ ثم يمر عليه وقت.. وكلما أردنا أن نؤنبه ذكرناه بما فعل.
وقوله تعالى: {وأنتم ظالمون}.. أي ظالمون في إيمانكم.. ظالمون في حق الله بكفركم به. اهـ.

.تفسير الآية رقم (93):

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ثم ذكر أمرًا آخر هو أبين في عنادهم وأنهم إنما هم مع الهوى فقال مقبلًا على خطابهم لأنه أشد في التقريع وإذ أخذنا وأظهره في مظهر العظمة تصويرًا لمزيد جرأتهم ميثاقكم على الإيمان والطاعة {ورفعنا فوقكم الطور} الجبل العظيم الذي جعلناه زاجرًا لكم عن الرضى بالإقامة في حضيض الجهل ورافعًا إلى أوج العلم وقلنا لكم وهو فوقكم {خذوا ما آتيناكم} من الأصول والفروع في هذا الكتاب العظيم بقوة.
ولما كانت فائدة السماع القبول ومن سمع فلم يقبل كان كمن لم يسمع قال قال: {واسمعوا} وإلا دفناكم به، وذلك حيث يكفي غيركم في التأديب رفع الدرة والسوط عليه فينبعث للتعلم الذي أكثر النفوس الفاضلة تتحمل فيه المشاق الشديدة لما له من الشرف ولها به من الفخار؛ ولما ضلوا بعد هذه الآية الكبرى وشيكًا مع كونها مقتضية للثبات على الإيمان بعد أخذ الميثاق الذي لا ينقضه ذو مروءة فكان ضلالهم بعده منبئًا عن أن العناد لهم طبع لازم فكانوا كأنهم عند إعطاء العهد عاصون قال مترجمًا عن أغلب أحوال أكثرهم في مجموع أزمانهم وهو ما عبر عنه في الآية السالفة بقوله: {ثم توليتم} [البقرة: 83] مؤذنًا بالغضب عليهم بالإعراض عن خطابهم بعد إفحامهم بالمواجهة في تقريعهم حيث ناقضوا ما قال لهم من السماع النافع لهم فأخبروا أنهم جعلوه ضارًا {قالوا سمعنا} أي بآذاننا {وعصينا} أي وعملنا بضد ما سمعنا؛ وساقه لغرابته مساق جواب سائل كأنه قال: رفع الطور فوقهم أمر هائل جدًا مقتض للمبادرة إلى إعطاء العهد ظاهرًا وباطنًا والثبات عليه فما فعلوا؟ فقيل: بادروا إلى خلاف ذلك {وأشربوا} فأعظم الأمر بإسناد الفعل إليهم ثم إلى قلوبهم، وهو من الإشراب وهو مداخلة نافذة سائغة كالشراب وهو الماء المداخل كلية الجسم للطافته ونفوذه- قاله الحرالي:
وقال الكشاف: وخلط لون بلون {في قلوبهم العجل} أي حبه وحذفه للإيذان بشدة التمكن بحيث صار المضاف هو المضاف إليه {بكفرهم} وفيه إشارة إلى أن من أعرض عن امتثال الأمر استحق الإبعاد عن مقام الأنس.
قال الإمام أبو الحسن الحرالي في المفتاح الباب الثامن في وجوه بيان الإقبال والإعراض في القرآن:
اعلم أن كل مربوب يخاطب بحسب ما في وسعه لقنه وينفى عنه ما ليس في وسعه لقنه فلكل سن من أسنان القلوب خطاب إقبال بحسب لقنه، وربما كان له إباء عن بعض ذلك فيقع عنه الإعراض بحسب بادي ذلك الإباء، وربما تلافته النعمة فعاد الإقبال إليه بوجه ما دون صفاء الإقبال الأول، وربما تناسقت الإقبالات مترتبة فيعلو البيان والإفهام بحسب رتبة من توجه إليه الإقبال، ويشتد الإدبار بحسب بادي الإدبار، وربما تراجع لفف البيان فيها بعضها على بعض، فخطاب الإقبال على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم إفهام في القرآن.
{ألم تر إلى ربك كيف مد الظل} [الفرقان: 45] الآية: {وهو الذي جعل لكم الليل لباسًا} [الفرقان: 47] الآية: تفاوت الخطابين بحسب تفاوت المخاطبين، {أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقًا ففتقناهما} [الأنبياء: 30] أعرض عنهما الخطاب ونفى عنهم ما ليس في حالهم رؤيته.
{خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم} خاطبهم وأمرهم، فلما عصوا أعرض وجه الخطاب عنهم ثم تلافاهم بخطاب لسان نبي الرحمة لهم، واستمر إعراضه هو تعالى عنهم في تمادي الخطاب {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1] تنزل الخطاب في الرتبتين ليبين للأعلى ما يبينه للأدنى {ذلك خير لكم وأطهر} [المجادلة: 12] وهذا الباب عظيم النفع في الفهم لمن استوضح بيانه والتفاف موارده في القرآن. انتهى.
والدليل الوجودي على إشرابهم حب العجل مسارعتهم إلى عبادة ما يشبهه في عدم الضر والنفع والصورة، ففي السفر الرابع من التوراة في قصة بالاق ملك الأمورانيين الذي استنجد بلعام بن بعور ما نصه: وسكن بنو إسرائيل ساطيم وبدأ الشعب أن يسفح ببنات مواب ودعين الشعب إلى ذبائح آلهتهم وأكل الشعب من ذبائحهم وسجدوا لآلهتهم وكمل بنو إسرائيل العبادة بعليون الصنم واشتد غضب الله على بني إسرائيل. انتهى.
ولما بين سبحانه عظيم كفرهم وعنادهم مع وقاحتهم بادعاء الإيمان والاختصاص بالجنان أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم على وجه التهكم بهم مؤكدًا لذمهم بالتعبير بما وضع لمجامع الذم فقال: {قل بئسما} أي بئس شيئًا الشيء الذي {يأمركم به} من الكفر {إيمانكم} هذا الذي ادعيتموه؛ وأوضح هذا التهكم بقوله على سبيل الفرض والتشكيك {إن كنتم مؤمنين} على ما زعمتم، فحصل من هذا أنهم إما كاذبون في دعواهم، وإما أنهم أجهل الجهلة حيث عملوا ما لا يجامعه الإيمان وهم لا يعلمون. اهـ.

.اللغة:

{ميثاقكم} الميثاق: العهد المؤكد بيمين.
{الطور} هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام.
{بقوة} بعزم وجد.
{أشربوا} أشرب: سقي أي جعلت قلوبهم تشربه، يقال: أشرب قلبه حب كذا، قال زهير:
فصحوت عنها بعد حب داخل ** والحب تشربه فؤادك داء

{خالصة} مصدر كالعافية والعاقبة بمعنى الخلوص، أي خاصة بكم لا يشارككم فيها أحد.
{أحرص} الحرص: شدة الرغبة في الشيء وفي الحديث: «احرص على ما ينفعك».
{بمزحزحه} الزحزحة: الإبعاد والتنحية قال تعالى: {فمن زحزح عن النار} أي أبعد، وقال الشاعر:
خليلي ما بال الدجى لا يزحزح ** وما بال ضوء الصبح لا يتوضح

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن في الإعادة وجوهًا:
أحدها: أن التكرار في هذا وأمثاله للتأكيد وإيجاب الحجة على الخصم على عادة العرب، وثانيها: أنه إنما ذكر ذلك مع زيادة وهي قولهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} وذلك يدل على نهاية لجاجهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} أي قلنا لهم خذوا ما أمرتكم به في التوراة بجد وعدم فتور {واسمعوا} أي سماع تقبل وطاعة إذ لا فائدة في الأمر بالمطلق بعد الأمر بالأخذ بقوة بخلافه على تقدير التقييد فإنه يؤكده ويقرره لاقتضائه كمال إبائهم عن قبول ما آتاهم إياه ولذا رفع الجبل عليهم، وكثيرًا ما يراد من السماع القبول ومن ذلك سمع الله لمن حمده وقوله:
دعوت الله حتى خفت أن لا

يكون الله يسمع ما أقول. اهـ.